الإسلام والاعتراف بهويّة الآخرين (1)
قد عاش في ظل دولة المسلمين جميع الأديان والطوائف، كاليهود والنصارى والمجوس والصابئة والإيزيديّة وغيرهم، وكلّهم تمتّعوا بالحرّية والأمن ونالوا حقوقهم كاملة، وإنّ وجودهم على مدى فترة الخلافة الإسلاميّة والاعتراف بهم وبهويّتهم هو من صميم تعاليم الدين الإسلامي.
يُحكى أنّ فتى شرّيراً طرده أبوه من بيته، فعاش بين الأزقّة والطرقات شريداً طريداً، يفترش الأرض ويلتحف السماء، ورآه رجلٌ من أهل الخير والإحسان، فأشفق على حاله، وأخذه إلى بيته، فآواه وأحسن إليه، لكنّ إحسان ذلك الرجل إليه لم يغير من طباع الغدر والخيانة والمكر التي عنده.
وبينما كان الفتى يمشي في السوق رأى تاجراً غريباً يحمل صرّةً مليئةً بالنقود الذهبية، فطمع بما في يده، وترصّد له حتى حلّ الظلام واختلى به وقتله وأخذ نقوده، وترك الخنجر مضرّجاً بالدم ووضعه تحت وسادة وليّ نعمته الذي آواه، ثمّ أخذ يصيح: أيها الناس، أين النخوة؟! أين المروءة؟! تاجرٌ غريب يُقتَل في هذه البلد بدل أن يلقى منها الضيافة والإكرام؟!
فقال الناس: لا ندري مَن قتله.
فقال: أنا أعرف القاتل، ودلّهم على الرجل الذي آواه، وأخرج الخنجر من تحت وسادته، و حرضهم على ذلك المحسن، وأمرهم أن يحاسبوه ويقتصّوا منه، ووقف يَعِظ الناس ويأمرهم بالفضائل ومكارم الأخلاق.
هذه القصة تلخّص حال الغرب-لا سيما من كان من الصهيونية وأتباعها- في تشويه صورة الإسلام، ووصفه بنبذ الأديان والملل، وعدم قبوله للآخرين، في حين كان الفضل للإسلام والمسلمين على اليهود في القرون الوسطى، عندما بطشت بهم أوربّا وأحرقتهم وأجبرتهم على اعتناق الكاثوليكيّة، ولم يجدوا ملجأً ولا مأوى إلا في البلاد الإسلامية، التي آوتهم وحمتهم ورعتهم واعترفت بهم ومنحتهم حقوقهم كاملة، بناء على تعاليم الإسلام السمحة.
لكنّ اليهود قابلوا ذلك الإحسان والمعروف لهم، (بنكران الجميل) واتهموا الإسلام والمسلمين بصفاتهم الخبيثة، وقالوا كذباً وزوراً: الإسلام دينٌ إقصائيّ: لا يعترف بهويّة الآخرين، وتلك الصفة هي من صميم صفات اليهودية الصهيونية.
عرضت صحيفة (دايلي ميل) البريطانيّة نتائج إحدى الأبحاث العلمية التي تناولت العلاقات بين أوروبا واليهود في العصور الوسطى، وخلص الباحث فيها إلى أنّ اليهود نجوا من بطش الأوربّيين بفضل الدول العربية الإسلامية التي فتحت أبوابها لهم وأنقذتهم، وأنقذت الديانة اليهوديّة من الاندثار على يد أوروبّا المتعصّبة المتشدّدة في تلك الفترة، فقد تناولت دراسةٌ أجراها الأستاذ لويحي باسكالي الخبير الاقتصادي بجامعة وارويك في بريطانيا، وجامعة وبومبيو فابرا في برشلونة بإسبانيا، وتضمنت الدراسة عرض خريطة لحركة طرد اليهود من أوربا على مدى خمسة قرون، خلال الفترة بين عام 1100-1600م فقد طُرِدَ اليهود من كثيرٍ من دول أوربا وخصوصاً إسبانيا، بداية من انتهاء حكم المسلمين عام 1492م، حيث تمّ تخييرهم بين التحوّل إلى الكاثوليكيّة أو الحرق، فكان الهروب هو الخيار المتاح أمام اليهود، ولجؤوا إلى الدول العربية والإسلامية التي وفّرت لهم الحماية .
وقد تناول موقع (جويش كونيكل) التابع لأحد أهم الصحف اليهودية علاقة المسلمين باليهود عبر التاريخ وأكد البروفيسور (ديفيد واسرشتاين)، المتخصص في الدراسات اليهودية بجامعة فاندربيلت بولاية تينيسى الأمريكية، فضل المسلمين في حماية اليهود وإيوائهم والحفاظ على عقيدتهم في مقال بعنوان : (ماذا قدم المسلمون لليهود؟ )
وكذلك كتب واسرشتاين في مقاله: (وكان الإسلام يحكم تقريباً كلّ اليهود في العالم، وأدى هذا الوضع الجديد إلى تحويل الوجود اليهودي، لقد تغيّرت ثرواتهم، من الناحية القانونية والديموغرافية والاجتماعية والدينية والسياسية والجغرافية والاقتصادية واللغوية والثقافية، جميعاً نحو الأفضل.)
لقد تحسنت أمور اليهود في ظل الدولة الإسلاميّة، فزالت جميع مظاهر التهديد، وأصبح هناك مجال واحد يتسع للجميع، المسلمين والمسيحيين واليهود.
ورصد كاتب الدراسة كيف عاش اليهود في بيئة احتوت قدراً كبيراً من الحرية الاقتصادية والدينية، وكان لهم كذلك قدرٌ من التمثيل الرسمي في المجتمع وأمام السلطة الحاكمة، وأن اليهود عاشوا عصرهم الذهبي الحقيقي في ظل الحكم العربي الإسلامي للأندلس [انظر: صحيفة الأهرام السبت 17 من جمادي الآخرة 1437 هــ 26 مارس 2016 م- العدد (47227)].
هذا الكلام لم يصدره كُتّاب مسلمون، وإنما هو دراسةٌ لبعض الباحثين والكتّاب اليهود المنصفين، وهذه الحقيقة التاريخيّة معروفةٌ ومشهورةٌ لدى الجميع لاشكّ فيها؛ لكنّ الصهاينة وأذنابهم اليوم ينكرون هذا الفضل، ويَصِمون الإسلام بأنّه إقصائي: ينبذ جميع الملل والطوائف، ولا يعترف بهويّة الآخرين، ولترسيخ هذا المعنى اتخذت السياسة الغربية إجراءات عمليّة، وبذلت من أجله المبالغ الطائلة، فأحدثت جناحين: جناحاً عسكريّاً، وجناحاً إعلاميّاً، أفرغت فيهما صفاتها الحقيقيّة من الحقد والبغض والكراهية والعنصريّة والقتل والبطش والقسوة، وصدّرتهما باسم الإسلام.
أمّا الجناح العسكري: فتصنع منه التطرّف والإرهاب باسم الإسلام، من خلال توجيهه إلى العداء، وزرع الحقد والكراهية فيه، وتدريبه على القتل والوحشيّة بكلّ صورهما في معسكرات خاصّة.
وأمّا الجناح الإعلامي: فقد جعلته صدى للجناح العسكري، ومهمّته أن يعلن على جميع وسائل التواصل عن الجرائم والإرهاب والقتل الذي يقوم به عناصر الجناح العسكري الذي أعدّه الغرب، ويعلّق ويحلِّل وينسب ذلك كله إلى الإسلام؛ ليترسّخ في الأذهان تشويه صورة الإسلام والمسلمين.
وإنّ الناظر في تعاليم الإسلام الداعية إلى السلام، وفي مخططات وتصرّفات الصهيونية العالمية، لَيدرك بأنّ هذا التطرّف والإرهاب يعبّر عن حقيقة الصهيونيّة وقد خرج من رحمها.
فأحكام القرآن الكريم، وتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة وشهادة التاريخ والواقع، كلها على خلاف ذلك، وإنّ الدلائل على سماحة الإسلام واعترافه بهويّة الآخرين، كثيرةٌ لا تكاد تنحصر، فقد عاش في ظل دولة المسلمين جميع الأديان والطوائف، كاليهود والنصارى والمجوس والصابئة والإيزيديّة وغيرهم، وكلّهم تمتّعوا بالحرّية والأمن ونالوا حقوقهم كاملة، وإنّ وجودهم على مدى فترة الخلافة الإسلاميّة والاعتراف بهم وبهويّتهم هو من صميم تعاليم الدين الإسلامي.
وسنذكر بعض الشواهد والأدلة على ما ذكرناه في المقال التالي إن شاء الله.
No comment yet, add your voice below!