تُعدُّ الأسانيد مفخرةً من مفاخر علماء الإسلام عموماً، وعلماء الحديث على الخصوص، وإبداعٌ حاز قدم السَّبق على كلِّ الأمم قاطبةً في توثيق النصوص المنقولة إلينا تاريخياً.
ويعدُّ اعتماده منهجاً في أعلى درجات التَّوثيق ضمن ضوابط وقواعد ألَّفها علماء الأمة، واتَّفقوا عليها جيلاً بعد جيل, تكميلاً وتتميماً إلى عصرنا الحالي، سمِّيت: (علوم الحديث) حيث صُنِّفتْ لها مؤلَّفاتها الخاصَّة، وتذخر مكتبات العالم بها.
وعندما يقول علماء الحديث: (هذا حديثٌ) فإنّهم يعنون بلا شكٍّ: (السَّنَّد والمتن معاً)، فهما كُلٌّ لا يتجزَّأ في مصطلحهم المعروف، كما أنَّ اهتمامهم بالحديث بجزئيه ظاهرٌ واضحٌ من صنيعهم وعباراتهم في كتبهم، وتظهر آثاره في القواعد التي وضعوها لحماية الحديث من أن تناله يد عابثٍ أو كاذبٍ أو جاهلٍ.
ولذلك دأب بعض المستشرقين والمشكِّكين على انتقاد الأسانيد وصنيع المحدّثين:
- تارةً باستغرابهم الاهتمام الشديد بالأسانيد، لدرجة أنّهم وصفوا أهل الحديث بـ: عبيد الأسانيد، وأسرى الأسانيد.
- وتارةً بتسخيف شأن الأسانيد توهيةً وتضعيفاً لها؛ لكونها من صنع المسلمين، وكونها لم تحظ بأدنى اهتمامٍ لدرجة أنَّ أيَّ إنسانٍ بإمكانه تركيب إسنادٍ ما وتأليفه واختراعه، ثُمَّ يوضع له متنٌ بسهولةٍ وبساطةٍ.
- وتارةً كان نقدهم لأهل الحديث بأنَّهم اهتمُّوا بالإسناد، وتركوا العناية بالمتن، وما يحمله من دلالاتٍ ومعانٍ؛ فجُلُّ العناية والاهتمام كان بالسَّند فقط.
والحقيقة: فإنَّ الغرض من كلِّ هذه الضوضاء الطَّعن في الحديث، وبالتالي الطَّعن في الإسلام، وقطع صلة المسلم وتشكيكه برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
ويمكننا الردُّ على كلام هؤلاء المشكِّكين بالآتي:
إنَّ عناية علماء الحديث بالإسناد حفاظاً على سنُّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أن تنالها يد العابثين، أدَّت لنشوء قواعد وأصول الرواية، وعُدّت هذه القواعد من أصحِّ قواعد البحث العلميِّ المتعلّق بتوثيق الأخبار والنصوص، وهي ميزةٌ لا توجد في تراث أيِّ أمّةٍ من أمم الأرض كلّها، ممّا يُعدُّ بحقٍّ مفخرةً من مفاخرها من جهة السّبق أولاً، ومن جهة الشُّموليَّة والموضوعية ودقّة النتائج ثانياً.
“ولمَّا أرادت الأمم الأخرى من غير المسلمين أن تجمع في أطوار نهضتها أقوال رجالها ورواياتهم، كان قد فات عليهم زمنٌ طويلٌ، وانقضى بينها وبينهم عهدٌ بعيد، وحاولوا كتابة تاريخ أمّةٍ قد خلت، فلم يميِّزوا بين سيِّء ما نُقل من ذلك الماضي وجيّده، أو صحيحه وسقيمه، بل لم يعلموا أحوال رواة تلك الأخبار، ولا أسماءهم، ولا تواريخ ولادتهم، فاكتفوا بأن اختاروا من أخبار هؤلاء الرواة المجهولين ورواياتهم ما يوافق هواهم -في غالب الأحوال-، ويلائم بيئتهم، وينطبق على مقاييسهم، ثمّ لم يمض غير زمنٍ يسيرٍ حتَّى صارت تلك الخرافات معدودةً كالحقائق التاريخيَّة المدوَّنة في الكتب، وعلى هذا المنهاج السقيم صُنّفت أكثر الكتب الأوروبيَّة، ممَّا يتعلَّق بالأمم الخوالي وشؤونها، والأقوام القديمة وأخبارها، والأديان السّالفة ومذاهبها ورجالها.
أمّا المسلمون فقد جعلوا لرواية الأخبار قواعد محكمةً يرجعون إليها، وأصولاً متقنةً يتمسّكون بها؛ فلا تُروى واقعةٌ من الوقائع إلا عن الذي شهدها، وكلّما بَعُد العهد عنها كان من الواجب تسمية من نقل خبرها عن الذي شهدها، ثمَّ تسمية من نقل ذلك الخبر عن الذي نقله عمَّن شهدها، وهكذا بالتسلسل من وقت الاستشهاد بالواقعة والتحدّث عنها إلى زمن وقوعها، والتثبّت من أمانة هؤلاء الرواة وفقههم وعدالتهم، وحسن تحمُّلهم للخبر الذي يروونه.
وهذه المهمَّة من أشقِّ الأمور، ومع ذلك فإنّ مئاتٍ من المحَدِّثين تفرّغوا لها، ووقفوا أعمارهم على تحرِّي ذلك واستقصائه وتدوينه”. [السُّنَّة النبوية: حجيةً وتدويناً، محمد صالح الغرسي، بتصرف].
ولقد بدأ إسناد الحديث في حياة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حين كان الصحابة يتناوبون حضورَ مجلسه عليه الصَّلاة والسلام، فيبلِّغ الشاهدُ منهم الغائبَ، وينقل كلٌّ منهم لغيره ما سمعَه وشاهدَه.
ثمّ استمرّ الحال على ذلك مدّةً من الزمن؛ حتى وقعت الفتن واستشهد الخليفتان الراشدان عثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقد رافق ذلك اختلاف الأمّة وتفرُّقَها، ونشوء الفرق والطّوائف، حيث حاول كلُّ فريقٍ التمسُّك بما يؤيّد موقفه وما ذهب إليه، مما استدعى زيادة الحيطة والحذر، كما لزم التثبّت في قبول الروايات، فأصبح السؤال عن السّند، وإلزام الرواة به أمراً ضرورياً اقتضاه واقع الحال.
وإنَّنا لنلمس اهتمام الأمَّة الإسلاميَّة بهذا الأمر منذ القرن الأول.
(عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! مَالِي لاَ أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي؟! أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ؟ وَلاَ تَسْمَعُ؟! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلاً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا، وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ، لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ مَا نَعْرِفُ).[صحيح مسلم]
[الصعب والذلول: أصله في الإبل؛ فالصَّعب: العَسِر المرغوب عنه، والذلول: السهل الطيب المحبوب المرغوب فيه، فالمعنى: سلك الناس كلَّ مسلكٍ ممَّا يحمد ويذمُّ].
لذلك فإنّ سند الحديث النبويِّ كان ولا يزال من أهمّ الوسائل التي حفظ الله تعالى بها المصدر التشريعيَّ الثاني، وصانه من الوضع والكذب والافتراء، كما أنّه الميزان الذي تُقيَّم به الروايات، وتدقَّق به الأخبار، لمعرفة صحيحها من سقيمها، وقويّها من ضعيفها.
قال محمّد بن سيرين (ت110هـ): (لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإسْنَادِ، فَلمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَناَ رِجَاَلكُمْ: فَيُنْظَرُ إِلى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنُظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ). [صحيح مسلم]
ويقول عبد الله بن المبارك: (الإسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلاَ الإسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ. وَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ، يَعْني: الإِسْنَادَ). [صحيح مسلم].
لقد درس المحدِّثون هذه الأسانيد دراسةً مستوفيةً من حيث الاتّصال والانقطاع؛ فمن حيث الاتّصال، وضعوا القواعد التي تتناول سائر أنواعه، فنظروا إليه من حيث مبدئه ومنتهاه، ودرسوا صيغه، ووضَّحوا شروطها، ونظروا إلى مسافة السند من حيث الطول والقصر، وإلى حال الرواة عند الأداء، ونقدوا الأسانيد في الحديث الواحد وما فيها من زيادةٍ ونقصٍ.
ومن حيث الانقطاع، درسوا أيضاً أنواعه، فبحثوا عن مواضعه من أوّله أو وسطه أو آخره، كما بحثوا فيه من حيث طبيعته في الظهور والخفاء، ونظروا في مواضع واعتباراتٍ كثيرةٍ لبيان وجود ما يقدح في سند الحديث.
فاستوفوا بذلك جميع أوجه الاحتمالات في اتّصال الحديث وانقطاعه، مما جعل حكمهم على أسانيد الأحاديث في غاية الدّقة والسَّداد.
كما عُرف عن أئمَّة الحديث الإكثارُ من الرِّحلة والتَّنقل في طلب الأسانيد، للوقوف على أحوال الرواة وسِيَرِهم عن قرب، وحرصاً منهم على علوِّ الأسانيد وقلّة الناقلين له، وإنَّ نظرةً سريعةً في تراجم الرواة تدلّنا على مدى الصعوبات التي لقيها هؤلاء الأئمّة في سبيل حفظ السُّنَّة، وسماع أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منابعها الصحيحة.
(قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَرَكِبَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ إِلَى مِصْرَ، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ أَمْرٍ لَمْ يَبْقَ مِمَّنْ حَضَرَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَا وَأَنْتَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي سَتْرِ الْمُؤْمِنِ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى عَوْرَةٍ سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَا حَلَّ رَحْلَهُ يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ). [أخرجه أحمد في مسنده].
ومن بعد الصحابة سار التابعون ومَن بعدَهم على هذا المنوال، فكان أحدُهم يخرج من بلده لا يُخْرجه إلا حديثٌ عن صحابيٍّ يريد أن يسمعه منه مباشرةً بدون واسطة.
إنَّ الأسانيد لم تكن أمراً اعتباطيَّاً بحيث يتسنَّى لمن شاء أن يختلق إسناداً وينسبه إلى من يريد، من غير أن يميِّز ذلك أئمّة هذا الشأن الذين خصّهم الله لحفظ دينه وحراسة سُنَّة نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
كما أنَّها كانت محطَّ عنايةٍ, ومتابعةٍ, واهتمامٍ دائمٍ, تتناول ضمان وصول المتن إلينا في غاية الدِّقة في التوثيق, والأمانة العلمية, بل تتعدَّى ذلك لتعتني بالمتن من فهمٍ خاطئٍ, أو علَّةٍ خفيَّةٍ تعكِّر صفو الحديث.
لذلك وُجد في كتب علوم الحديث التعليلُ بوجود علَّةٍ قادحة في المتن، وكذلك وُجد القلب والإدراج, وهي عللٌ في متن الحديث كما هي في سنده، وغير ذلك مما تجدونه مبسوطاً في مظانِّه من كتب علل الحديث ومصطلحه.
والذي نريد أن نخلص إليه في هذه المقالة:
أنَّ الأسانيد إبداعٌ فريدٌ, ومنهجٌ قويمٌ في توثيق النقول الحديثيَّة، استطاع علماء الحديث إبداعها وصنعها، حفاظاً على الدِّين من التحريف والتَّبديل، وعليها سار العلماء في حفظ سُنَّة نبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّم، بل واعتمدها أئمَّة الحفَّاظ لكتاب الله تعالى في تلقين القرآن الكريم وإجازته للحَفَظَة جيلاً بعد جيل، وستبقى هذه الطريقة ضماناً للأمَّة من أيِّ شائبةٍ أو أيِّ تشكيكٍ يطال دينها، وإنَّنا نلمس أهميَّتها في عصرنا الحالي حيث تنتشر المعلومات بسهولةٍ وسرعةٍ عبر وسائل التواصل الالكترونيَّة المتنوِّعة، فيستطيع أيُّ إنسانٍ وضع ما يريده وجعله حقيقة، فإذا اعتمدنا منهج التوثيق بالسُّؤال عن مصدر هذه المعلومة، ومن أين أتت؟ ومن سمعها؟ وعمَّن؟ وهكذا … وصلنا لقبولها أو رفضها.
جزى الله تعالى علماء الأمَّة خيراً, ووفَّقنا للسَّير على نهجهم. والحمد لله ربِّ العالمين.
No comment yet, add your voice below!