منهج التزكية في الإسلام
منهج التزكية في الإسلام
الإسلام منهجُ حياةٍ متكامل، يهتمُّ بالجانب الفكريّ والعقلي؛ ولا يُغفل جانب الروح والقلب، لأنَّ أساسَ علاقة العبد بربِّه يعتمد على المحبّة والصفاء اللذين ينبعان من القلب، الذي ينعكس بالضرورة على علاقة المرء بالعالم من حوله.
لذلك شغلت تزكية القلوب الصحابةَ الكرام منذ زمن سيِّدنا محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد كانت مهمَّته عليه الصلاة والسلام إقامة دولة القلوب المصفَّاة لتقوم بها وعلى أركانها دولة الحقِّ.
وقد كان من دعاء سيِّدنا إبراهيم عليه السلام لأُمَّته وذريَّته: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (وَيُزَكِّيهِمْ) إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة البقرة:129]، فمع تعليم القرآن والسُّنَّة كان للتزكية جانبٌ مهمٌّ، ولكنَّ استجابة المولى كانت مع تغييرٍ في الترتيب: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيْهٍم رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِم يَتْلُوا عَلَيْهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيْهِم ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَة وَغِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِيْ ضَلَالٍ مُبِيْنٍ} [آل عمران164]، فقد قدَّم التزكية على العلم لأهمّيَّتها؛ فبها يثمر العلم على حقيقته.
واهتمَّ العلماءُ بعد الصحابة الكرام فألَّفوا في مناهج التزكية الكتب، وأُلقيَ حول معناها الكثير من الدروس والمواعظ، وإن كانت معانٍ تخاطب القلب وروح الإنسان، ودخل كثيرون مدرسة التزكية ليزكوَ بها سبيلهم في إعمار الأرض.
تُعرَّف التزكية: بأنَّها الزُّهد في الدنيا، وشَغْل القلب بخالقه وطاعته، والزُّهد لا يعني – كما يفهم البعض– ترك العمل في الدنيا، وإنَّما يعني سعي المرء فيها على أن تبقى في يده فلا تستولي على كيانه وفكره؛ ولا يصير عبداً لها دون خالقه، تغدو تحت تصرّفه من غير أن تملكه أو تملك قلبه، ويبقى قلبه عامراً بالله، موقناً بأنَّ كلَّ شيءٍ في الدنيا هو من الله.
فالإنسان مُطالَبٌ بالإيمان بأنَّ كلَّ خيرٍ وكلَّ رزقٍ هو من عند الله، وأنَّ رزقه مكتوبٌ معلومٌ عند خالقه جلَّ في علاه، ومع ذلك فهو مطالبٌ بالسعي للحصول على هذا الرزق وفي قلبه ذلك الإيمان.
رحمته في الجهاد
هذا هو المنهج الحقيقيُّ للتزكية؛ فهي تخليةٌ من كلِّ وساوس الشيطان والدنيا –مع السعي فيها– وتحليةٌ بكلِّ فضيلةٍ، وأن يكون كلُّ خيرٍ يكتسبه المؤمن وكلُّ شرٍّ يبتلى به سبباً له في التقرُّب إلى الله تعالى.
وإذا عُدنا إلى قصص الصالحين الذين كانوا أئمَّةً في التزكية وجدنا هذه المعاني متجسِّدةً في حياتهم، فهذا حُجَّة الإسلام الإمام الغزالي يشعر بتسلُّل الكِبْر إلى نفسه لما علَّم وخرَّجَ من أجيال، فترك كلَّ شيءٍ وهجر بلاده، وعكف على نفسه يهذِّبها ويزكيها.
اعتزل الناس في دمشق؛ وألَّفَ كتابه العظيم: (إحياء علوم الدين)، وبعدما رأى من نفسه سلوك السبيل الصحيح الرشيد عاد إلى التعليم بجناحَي العلم والتزكية، لكنَّه لم يتوقَّف في عزلته عن العمل فكان في خدمة الجامع الأموي.
إنَّه منهج التزكية؛ منهجٌ بعيدٌ عن الشطط والتكلُّف في العبادات، منهج الصفاء في القلب مع لُطف التعامل مع الخلق، والعمل الدؤوب في خدمتهم وإعمار الأرض.
ومن هذه المعاني ما نجده في الكتب الأُمَّهات لهذا العلم مثل كتاب: “الحِكَم العطائية” لابن عطاء الله السكندري، إذ يقول: (لا تُفْرِحْكَ الطَّاعَةُ؛ لأنَّها بَرَزَتْ مِنْكَ، وَافْرَحْ بِهَا لأنَّها بَرَزَتْ مِنَ الله إليكَ ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.)
فمنهج التزكية منهجٌ أساسٌ في صياغة شخصية المسلم الناضجة المتكاملة وتعاملاته، وقد فازَ من التزمَ به وسعدَ.
No comment yet, add your voice below!