لن أحاور ...!
لن أحاور
لن أحاورك لأنَّني لا أستطيع إقناعك برأيي…
لن أحاورك لأنَّني لا أملك الدليل على صواب رأيي…
لن أحاور لأنَّني لا أحب الحوار، فأنا أفرض رأيي على كلِّ من حولي!!!
لن أحاور الصغير لأنَّني كبير، ولا يليق بي محاورة الأطفال.
لن أحاور زوجتي لأنَّني أملك القوامة والقيادة لأسرتي، وأقرِّر ما أشاء.
لن أحاور أعدائي لأنَّني لا أحبُّهم.
لن أحاور وإن كان ظاهر ما أريده هو الحق، لأنَّني معاندٌ برأيي…
لن أحاور وفقط…
أعتقد أنَّ هذه الأفكار السابقة تراود بعض الناس، سواء أعلنوا ذلك أم أسرّوه، باحوا به أم كتموه، فعدم الحوار في حياتنا دليلٌ على الضعف والجهل والتراجع وغير ذلك من مشاكلنا التي نتعثَّر بها في حياتنا اليومية والآنية.
يفهم البعض الحوار خضوعاً، أو تبعيةً لأفكارٍ موروثةٍ أو أشخاصٍ معيَّنين…
ويفهم البعض الآخر الحوار تنازلاً عن حقوقه المشروعة في اتِّخاذ القرار الذي يناسبه، ويرى فيه مصلحته…
وآخرون يرون أنَّ آخر ما يمكن أن نتحدَّث به في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وتداعت علينا فيه الأمم، وتنافس الناس فيه على المال والدنيا عموماً؛ يرون أن آخر ما يمكن فعله هو أن نُحاور أو أن نُدخل الحوار في حلول مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية…
إنَّ معظم مشاكلنا الكبرى والصغرى، لا يمكن حلُّها إلَّا بالحوار، ولقد انتهت حروبٌ عظيمةٌ في التاريخ القديم والحديث بين دولٍ بالمفاوضات والحوار، فما بالنا بما دون ذلك.
أذكر نموذجاً من السيرة النبوية في حرب قريشٍ مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأكثر من ست سنواتٍ، حيث انتهت تلك الحرب بالحوار الذي سُمِّي في السيرة النبوية بـ (صلح الحديبية).
((رأت قريش ألَّا قِبَل لها بحرب المسلمين، وإلّا دارت عليهم الدائرة، ونمى إليها أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يريد حرباً، فأرسلت إليه من يفاوضه تعرفاً على قوَّة المسلمين وعزمهم على القتال من جهة، وطمعاً في صدِّ المسلمين عن البيت بالطرق السلمية من جهةٍ أُخرى… فأتاه بديل بن ورقاء في رجالٍ من خزاعة… فسألوه عما جاء به، فأخبرهم أنَّه لم يأت يريد حرباً، وإنَّما جاء زائراً للبيت ومعظّماً له، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنَّكم تعجِّلون على محمَّد، وإنَّه لم يأت لقتال، وإنَّما جاء زائراً للبيت، … ثمَّ بعثوا إليه مكرز بن حفص… ثمَّ بعثوا بحليس سيّد الأحابيش، … ثمَّ بعثوا إلى رسول الله حكماً يطمئنون إليه، وهو عروة بن مسعود الثقفي، … فكلَّمه رسول الله بنحو ما كلَّم به من سبقه وأنَّه ما جاء يريد حرباً، وكان عروة يرمق أصحاب رسول الله ويتعرَّف أحوالهم، فرأى أمراً عجيباً: رأى رسول الله لا يتنخّم نخامةً إلَّا وقعت في كفِّ رجلٍ منهم فدلك بها وجهه وجلده!! وإذا أمرهم ابتدروا أمره: أيُّهم ينفذه أولا!! وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وضوئه!! وإذا تكلَّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له!! فرجع عروة إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إنِّي قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإنِّي والله ما رأيت ملكاً في قومه قطّ مثل محمَّدٍ في أصحابه، لقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيءٍ أبداً، وإنَّه قد عرض عليكم خطّة رشدٍ فاقبلوها، فإنِّي لكم ناصح، فقالت قريش: لا تتكلَّم بهذا، ولكن نردُّه عامنا هذا ويرجع من قابل… ولم يكن بدٌّ لقريش وقد جرى ما جرى من أن تفكِّر في الصلح جدّيا، وأن تنتهي هذه الحالة التي قد تدور بسببها الدائرة عليهم، فأرسلوا سهيل بن عمرو إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقالوا له: ائت محمَّداً وصالحه، ولا يكن في صلحه إلَّا أن يرجع عنَّا عامه هذا، فو الله لا تتحدَّث العرب أنَّه دخلها علينا عنوةً أبداً. فلمَّا انتهى سهيلٌ إلى رسول الله ورآه تفاءل به، وقال: «لقد سهل لكم من أمركم» وتكلَّم سهيل فأطال الكلام، وتراجع هو والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى انتهيا إلى صيغة الصلح، وتمَّ الاتِّفاق…)) [السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة، لمحمد محمد أبو شهبة: 2/ 327 باختصار لعدد من التفاصيل].
أختم مقالتي هذه بذكر نماذج من فكر الإسلام في الحوار من القرآن الكريم والسنة النبوية، تنير لك طريق الحوار الصحيح، وخطواته الإيجابية، والله الموفق:
أولاً- لا حوار بغير علم:
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8].
ثانياً- على طاولة الحوار يجب على المحاور أن يفترض احتمال ثبوت الحقِّ على لسان الخصم:
قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
ثالثاً- التزام اللين والتهذيب أثناء الحوار:
قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}.
ذكر بعض المفسرين أنَّ المقصود بالذين ظلموا أولئك الذين نصبوا القتال للمسلمين بدل الجدال.
وجاء قول الله تعالى مؤكِّداً استخدام القول الليّن في مخاطبة الآخرين في وصية موسى وهارون عليهما السلام: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
رابعاً- حسن الاستماع للطرف الآخر:
فالحوار مسألة تبادل للآراء؛ وليس مجرَّد إرسالٍ من طرفٍ واحدٍ واستقبالٍ من الطرف الثاني.
قال السحرة لسيِّدنا موسى عليه السلام: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} فأعطاهم الفرصة الأولى للإدلاء بالبينات.
وروى ابن إسحاق في سيرته صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنَّ عتبة بن ربيعة قال يوماً وهو جالسٌ في نادي قومه، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جالسٌ في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلِّمه وأعرض عليه أموراً لعلَّه أن يقبل بعضها فنعطيه أيّها شاء ويكفَّ عنَّا؟! – وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، ورأوا أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يزيدون ويكثرون – فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه.
فقام إليه عتبة حتّى جلس إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: يا ابن أخي، إنَّك منَّا حيث علمت من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنَّك قد أتيت قومك بأمرٍ عظيمٍ فرَّقت به جماعتهم، وسفَّهت أحلامهم، عبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منِّي أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلَّك تقبل منها بعضها.
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ” قل يا أبا الوليد أسمع “.
قال: يا ابن أخي إن كنت إنَّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتَّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوَّدناك علينا حتَّى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منها، فإنَّه ربَّما غلب التابع على الرجل حتَّى يداوى منه.
حتَّى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يستمع منه، قال: ” أفرغت يا أبا الوليد؟ “
قال: نعم، قال: “فاستمع منِّي”، قال: أفعل.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ومضى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقرؤها إلى السجدة، واستمع إليها عتبة حتَّى تغيَّر وجهه وتأثَّر ممَّا سمع، وذهب إلى القوم وهو يمدح القرآن، فقالوا له: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه».
ومهما تكن نتيجة الحوار فالمسلم مكلَّفٌ بالاستماع تطييباً لخاطر من يتكلَّم، وذلك أدعى إلى جلبه إلى جانب الحقّ، وذلك ما فعله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا الموقف، وفي كلِّ موقفٍ حوارٌ له مع الكفار والمخالفين.
وإذا كان حتَّى الكافر يمنح تلك الفرصة في الاستماع ليعرض أفكاره وآراءه، فإنَّ ذلك الحقّ نفسه لا بدَّ أن يعطى للمخالفين.
خامساً- إقناع الآخرين بالدليل المنطقي والعقلي:
قال ابن إسحاق: وحدَّثت عن ابن عباس أنَّه قال: «لما قدم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة، قال أحبار يهود: يا محمَّد، أرأيت قولك: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} إيَّانا تريد، أم قومك؟
قال: كلاً، قالوا: فإنَّك تتلو فيما جاءك: أنَّا قد أوتينا التوراة فيها بيان كلِّ شيء.
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه.
قال: فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: أي أنَّ التوراة في هذا من علم الله قليل».
هذه نماذج تدلِّل ببساطةٍ لزوم الحوار، فهل بعد هذا من يقول: لن أحاور…!!
1 Comment
[…] #لن_أحاور […]