لم حرَّم الإسلام لحوماً معيَّنة
لم حرَّم الإسلام لحوماً معيَّنة
بين العباد وربِّهم عقودٌ تتَّصل بحقوقه جلَّ شأنه، أو تتناول علاقة بعضهم ببعض، وقد تتناول علاقاتهم بالكون المسخِّر لهم، والأحياء التي ذلَّلها لمنافعهم…
وقد أمر المؤمنين برعاية هذه العقود والإحساس بحرمتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}.
وما يتلى عليهم أربعة أنواع على الإجمال، وعشرةٌ على التفصيل ذكرت في قوله تعالى:
((حُرِّمت عليكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ والمتردية والنطيحة وما أكلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصْبِ)).
والتحريم مشروعٌ هنا لمصالح الناس، والحفاظ على صحَّتهم، ولا يقال: إنَّ الناس تأكل الخبائث ولا يصيبها ضررٌ ظاهر، أو أنَّ الجماهير تشرب الخمر والدخان والمخدِّرات ويتأخَّر اعتلالها، أو تكون وعكاتها خفيفة، إنَّ هذا الكلام مردود، إذ إنَّ التحقيق العلميَّ أثبت أخطار هذه السموم، وإذا كان البعض ينجو منها فلأسبابٍ غير مطَّردة… والواجب أن تتنزَّه الجماهير عن أكل هذه المحرَّمات، فراراً من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة…
أوَّل هذه المحرَّمات (الميتة) وهي الحيوانات أو الطيور التي تموت حتف أنفها، ويغلب أن يكون هلاكها لمرضٍ باطنٍ بها، وليست الأسماك التي تموت بعد خروجها من الماء من صنف الميتة، بل هي لحمٌ حلال.
ثمَّ الدم، أي المسفوح الذي يسيل من عروق الذبيحة، لا يجوز تجميعه وطبخه، ولحم الخنزير لقذارته واحتوائه على جراثيم وديدان خبيثة. ولحم الخنزير محظورٌ في الأديان الأولى كما هو واضحٌ في تعاليم العهد القديم.
وما أهلَّ لغير الله به، وهذا تحريمٌ تعبُّديٌّ محض، والمقصود قطع دابر الوثنية وما يمتُّ إليها بصلة، فما ذبح مقترناً باسم صنم أو بأيِّ اسمٍ آخر غير اسم الله حرم أكله، والأصل في الذبح أن يكون باسم الله الذى سخَّر وأباح، قال تعالى: ((فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ))، ((وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)).
ويرى فريقٌ من الفقهاء أنَّ ذكر الاسم الكريم مستحبٌّ وليس فرضاً، فذكر الله مستكن في قلب كلِّ مسلم وإن لم يجر على لسانه، وإنَّما يوصف المذبوح بأنَّه فسقٌ إذا ذكر عليه غير اسم الله، وقد اعتمد هؤلاء في فهمهم على سننٍ واردة.
ومن أنواع الميتة المحرَّمة «المنخنقة»: وهي التي شنقت نفسها أو شنقها غيرها بأن لفَّ حبلها حول عنقها حتَّى طاحت.
و«الموقوذة»: وهى التي ظلَّت تضرب حتَّى هلكت سواءً كان بِـعصاً أو بما أشبه العصا.
و«المتردية»: وهى التي هوت من مكانٍ عال، أو داخل حفرة، ففقدت حياتها.
و«النطيحة»: وهى التي ماتت في صراعٍ مع حيوانٍ آخر ظلَّ ينطحها حتَّى أهلكها.
«وما أكل السَّبُع»: التي عدا عليها وحشٌ مفترسٌ فأعطبها، فإذا أدرك المرء بهيمةً من هذه الخمسة الأخيرة، ولاتزال بها حياة، فذبحها حتَّى سال منها الدم، جاز أكلها، مادام قد رأى أنَّ ذبحه هو الذى أجهز عليها.
أمَّا «وما ذُبح على النُّصُب»: فهو من قبيل ما أُهلَّ لغير الله به، والنُّصُب: شاخصٌ يُقيمه الناس لمعنىً يتواضعون عليه، كالنُّصُب التذكاري للشهداء، أو للجندي المجهول مثلاً.
والذبح عند نُصُبٍ قائمٍ أو ضريحٍ يُزار نوعٌ من الوثنية يأباه الإسلام، وتحرم به الذبيحة.
إنَّ الله الذي خلق كلَّ شيءٍ هو الذي سخَّر لبني آدم بعض مخلوقاته: ((وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)) ((اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)).
وللنباتيين رأيٌ في ترك اللحوم كلِّها لا تُقرُّهم الأديان عليه، ولا أعرف شريعةً سماويةً حظرت ذبح الحيوان.
ومادام الله هو الذي أحلَّ فينبغي التزام الأسلوب الذي قرَّره في الانتفاع بهذه الذبائح، ورفض ما عداه، والمحرَّمات التي أحصيناها هنا تَكرَّر ذكرها في أربعة مواضع من القرآن الكريم عن طريق القصر والحصر، ممَّا يجعلنا نعـدُّ ما ورد من نهيٍ عن أكل غيرها من قبـيل
الكراهية، وفى ذلك خلافٌ فقهيٌّ معروف.
وقد أطال صاحب المنار في التعليق على تحريم كلِّ ذي نابٍ من السباع، وكلِّ ذي مخلبٍ من الطير، واقترب من مذهب مالك رضي الله عنه، ولا نُقحم أنفسنا في هذا الميدان، وإنَّما يلفت النظر إلى أنَّ نبيَّ الإسلام عليه الصلاة والسلام قد بُعث بتحليل الطيِّبات وتحريم الخبائث، ونحن نجزم بأنَّ ما نص الشارع على تحريمه فهو من الخبائث. فما الرأي فيما لم يتناوله الكتاب بنصٍّ؟
يقول الشيخ محمَّد رشيد رضا: «مالا نصَّ في الكتاب على حلِّه أو حرمته قسمان: طيِّبٌ حلال، وخبيثٌ حرام، وهل العبرة في التمييز بينهما ذوق أصحاب الطبائع السليمة، أو يعمل كلُّ أناسٍ بحسب ذوقهم؟ كلٌّ من الوجهين محتمل.
والموافق لحكمة التحريم الثاني، وهو أنَّه يحرِّم على كلِّ أحدٍ أن يأكل ما تستخبثه نفسه وتعافه، لأنَّه يضرُّه ولا يصلح لتغذيته. ولذلك قال بعض الحكماء: (ما أكلته، وأنت تشتهيه فقد أكلته، وما أكلته وأنت لا تشتهيه فقد أكلك…).
ونحن نرى أنَّ الاستعانة بعلم «التغذية» وما وصل إليه الأخصَّائيون في علوم الأحياء مطلوب، ولعلَّ ذلك يميز الخبيث من الطيِّب. على أنَّنا نرفض كلَّ احتيالٍ على إهمال النص، فإنَّ الإسلام حرَّم الخنزير مثلاً لوساخته، وحملِ لحمه لمصادر البلاء.
فإذا جاء اليوم من يقول: إنَّه ربَّى خنازير معيَّنةً على مراعٍ حسنة، واتَّخذ ضماناتٍ لإنقاء لحمها من مصادر العلل، لم نقبل قوله، ولم نستبح الحرام. إنَّ ذلك يشبه ما تزعمه شركات التبغ من أنَّ الفلتر الذي تضعه في سجائرها يمنع القطران من تلويث الرئة فما أغنانا عن هذا كلِّه، وفى الحلال الكثير الميسور ما يغني عن هذه الحيل.
ولا يجوز تعذيب الحيوان عند ذبحه، وأفضل طرق التذكية ما يخفِّف على الحيوان خروج روحه، وقد رأى فقهاؤنا القدامى أن يكون الذبح بقطع الحلقوم والمري والودجين -عرقان على صفحتي العنق- أو أكثر ذلك، لتتمَّ تنقية البدن من الدَّم الكائن فيه. يقول صاحب المنار: (إنَّ هذا التحكُّم في الطبِّ والشرع بغير بيئته، ولو كان الأمر كذلك لما أحلَّ الصيد الذي يأتي به الجارح ميتاً، ثمَّ يقول: “وإنِّي أعتقد أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لو اطَّلع على طريقةٍ للتذكية أسهل على الحيوان، ولا ضرر فيها كالتذكية بالكهربائية إن صحَّ هذا الوصف لفضَّلها على الذبح، لأنَّ قاعدة شريعته أنَّه لا يحرِّم على الناس إلَّا ما فيه ضررٌ لأنفسهم أو لغيرهم من الأحياء)، ولا أعرف الطريقة التي يومئ إليها الشيخ رشيد، وقد عرفت أنَّ مصانع اللحوم البقرية تضرب البهيمة قبل ذبحها ضربةً تخدِّر أعصابها، ثمَّ تقطع الرأس، وتمضي في تهيئة اللحم لآكليه. قد تكون الصدمة التي تذهب بإحساس البهيمة، ولا تذهب بحياتها مشبهةٌ للمخدِّر الذى يتناوله المريض قبل جراحةٍ يُجريها الأطبَّاء، ولا شيء في ذلك بداهة، بيد أنَّ أعداداً من الغربيين والشرقيين يخنقون الطيور، أو يُجهزون على حياتها بوسائل همجيةٍ أقسى من الذبح، وإن كانوا يعيبون الذبح، وذلك ما تأباه الشريعة الإسلامية، وقد عطف القرآن الكريم على الطيِّبات المباحة مثل لحوم الصيد: ((يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعْلَمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمسكن عليْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سریع الحساب))، والصيد كما يكون بالكلاب المدرَّبة، والبزاة، والصقور، يكون بالأسلحة الفاتكة: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيبلُونَكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يخافه بالغيب)). وفي عصرنا هذا اختفت الرماح والسهام لتحلَّ محلَّها الأسلحة النارية التي تقتل الصيد أو تصيبه بجراحٍ مجهدة، وعند إدراكه حيَّاً ينبغي أن يُذبح الذبح الشرعي المعهود، وإلَّا فإنَّ موته بأيِّ أداةٍ من أدوات الصيد السابقة يعتبر ذكاةً له.
وليس الصيد مسلاةً لطلَّاب اللهو وهواة قتل الحيوان، بل هو مصدرٌ من مصادر التغذية التي كان الناس ولا يزالون في بعض البيئات يحتاجون إليها، والصائد يذكر اسم الله عندما يرسل كلبه، أو يطلق رصاصه، وروى ابن جرير: “إذا أرسلت جوارحك فقل باسم الله، وإن نسيت فلا حرج، أي إنَّ عدم الذكر لا يحرم الصيد».
وروى البخاريُّ أنَّ قوماً قالوا: “يا رسول الله، إنَّ قوماً يأتوننا باللحم لا ندري ذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سمُّوا عليه أنتم، وكلوا، قال: وكانوا حديثي عهدٍ بكفر”.
لماذا يستورد المسلمون الذبائح من أنعام وطيور؟ لماذا عجزوا عن تنميتها وتكثيرها في بلادهم؟ هل تربية الأبقار والدجاج تحتاج إلى أخصَّائيين في علوم الذرَّة؟ وعندما تصاب قدرات المسلمين بالشلل في مجال الثروة الزراعية والحيوانية فهل ينتظر لهم تفوُّقٌ أو نجاحٌ في الميادين الأخرى، برَّاً وبحراً وجوَّاً؟
إنَّ الحماس في عالم الجدل مرضٌ عفنٌ إذا صحبه برودٌ في عالم الإنتاج، وقد رأيت التديُّن التقليدي يتَّسم بهذه الخاصَّة المزعجة… قصورٌ في فهم أو في عرض وجهات النظر المختلفة، ثمَّ تراشقٌ بالتُّهَم، وتبادلٌ لسوء الظنِّ، فإذا تطلَّب الإيمان ضرورة اكتفاء الأمَّة بمواردها، واستغنائها عن سواها تبخَّر الحماس، وخلا الميدان. لست من هواة التغلغل في الفروع الفقهية، فإنَّ أصول العقيدة والأخلاق والتشريع تهمُّني وتستغرق وقتي، وما أنظر في الأمور الفرعية إلَّا بمقدار ما أجمع به الشمل، وأمنع الفرقة، وأقصى المتزمِّتين والمعلولين عن أماكن الصدارة.
إنَّ حاجة المسلمين إلى القمح لصنع الرغيف، أو إلى الدواء لعلاج العلل، أو إلى اللحوم ميتةً أو حيَّةً شيء في نظري يهدِّد عقائدهم ذاتها، ويجعلهم يعيشون عالةً على أهل الأرض.
فهل نوجِّه قدرتنا على الكلام والاعتراض إلى عملٍ إيجابيٍّ؟ أم تبقى مهمَّة بعض المتديِّنين الطعن في الدواء؛ لأنَّه ذائبٌ في الكحول ونرفض اللحم المستورد لأنَّ ذكاءه موضع ريبة؟ ثمَّ ينتهي دورهم، إنَّني أقدِّر النيَّة الحسنة لكلِّ من شارك في هذا البحث، ولكنَّ الطريق لمَّا يُمهَّد بعد لعملٍ جادٍّ تتحرَّك به أُمَّةٌ كسول.
No comment yet, add your voice below!