سُنن اللهِ تعالى في خلقه
سُنن اللهِ تعالى في خلقه
استطاع المجتمع البشريُّ بالقدر الإلهيِّ وعبر سنينَ طويلةٍ من الدراسة أن يتوصَّل إلى بعض القوانين الناظمة التي تحكم هذا الكون، وهي سننٌ إلهيةٌ تضبطُ حركة الطبيعة والكائنات بدءاً من أبسط قوانين الفيزياء، والجاذبية، والمنطق الرياضيّ إلى أعقد مسائل الكون والحياة، وكان توصُّله هذا من ثمار العقل الذي وهبه الله له، ونتاج التجربة الإنسانية.
وأنزل الله تعالى القرآنَ الكريم على نبيِّه ﷺ رسالةً خاتمةً جامعةً شاملةً، فكان دستور البشرية المعجز من لدن تنزُّله إلى قيام الساعة. تحرِّض آياته العقل على التأمل في خلق الله للوصول إلى كمال الإيمان والتوحيد، وتعطي الإنسان الفهم الحقيقي للحياة، من خلال تلك السنن الكونية والاجتماعية، ومن خلال أخبار الأنبياء مع أقوامهم، وسنن الله في الحياة والتاريخ.
خلق الإنسان وولادة المجتمع البشري
ذكر البيان القرآني مقصد الله من ولادة المجتمع البشري وبداياته الأولى، وسبب خلق الإنسان، وتكاثر البشر، والحكمة من اختلاف أعراقهم ولغاتهم، وإرسال الرسل، قال تعالى: ((إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفةً)) [سورة البقرة30]، ((كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدةً فبعثَ اللهُ النَّبيينَ مبشَّرينَ ومُنذِرينَ وأنزلَ معهمُ الكتابَ بالحقِّ ليحكمَ بينَ الناسِ فيما اختلفوا فيه)) [سورة البقرة-213].
العلاقة بين العدالة الإلهية وحرية الإنسان
ذكر القرآن الكريم عدداً من السُّنن التي تحكم سير المجتمعات البشرية وتطوُّرَها ونموَّها، أو سقوطها وزوالها، وهذا ما تضبطه الحكمة الإلهية والحقّ والعدل الإلهي، ويرتبط ذلك ارتباطاً وثيقاً بحريَّة الإنسان الفرد التي جعلها الله سبب التكليف، فقد جعله حرَّاً في إرادته وسلوكه الذي يقرِّر مصيره.
فالإنسان حرٌّ في أن يختار السلوك الصحيح السليم، أو السلوك السقيم، وله أن يختار الوقوفَ إلى جانب الحقِّ أو إلى جانب الباطل، قال تعالى: ((وقُلِ الحقُّ من ربِّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) [سورة الكهف-29]، ((وقلِ اعملوا فسيرى الله عملكم ورسولهُ والمؤمنونَ ثمَّ تُردُّونَ إلى عالمِ الغيبِ والشهادةِ فينبئكم بما كنتم تعملونَ)) [سورة التوبة-105].
لكنَّ حريَّة الإنسان لا تعني أبداً التفلُّت من القيم، وقوانين الفطرة، والعبث بمعايير الحقِّ والخير والفضيلة، أو الشرِّ والباطل والرذيلة، بمعنى أنَّ كلَّ ما يختاره أو يحكم عليه بنفسه أنَّه الحقّ فهو الحقُّ، وكلَّما يرفضه فهو الباطل، لا… لأنَّ ذلك سيجعل تلك الموازين خاضعةً للأهواء والأمزجة البشرية، فالخير، والعدل، والشرَّ، والظلم، والرذيلة كانت تسبق في وجودها الإنسان.
والإنسان حرٌّ في اختياره، ويمكنه رفض ما يرفض منها، أو قبول ما يقبل، ويتحدَّد وفق قبوله أو رفضه بعد ذلك الحكم على سلوكُه، وبالتالي يتحدَّد مصيره بما أعطاه الله من حرية.
وذلك على النقيض من الرؤية المعاصرة للمجتمعات الغربية ونظريَّاتها الاجتماعية التي جعلت تلك القيم على أهمّيَّتها تابعةً للإنسان وإرادته، واعتبروا ذلك حجر الأساس في التفكير الاجتماعي الغربي وقيمه في الحرية والديمقراطية المطلقة التي أنتجت الليبرالية الحديثة، وسوى ذلك، وما نتج عنها من ضياع للقيم، وانحطاط للأخلاق، وهيمنة الهوى والغرائز على المجتمع.
الحرية مبنيةٌ على ضوابط القيم التي تعدُّ أصل الشرائع
يؤكد المنهج القرآني والتشريع الإسلامي أصالة القيم الكبرى وثباتها، فهي ركائز تُبنى على أساسها المجتمعات، والإنسان مسؤولٌ عن اختياراته وسلوكه وفق ما تُمليه القيم العليا، والشرائع الربَّانية. وبما أنَّ الإنسان غير معصومٍ، وقد تزلُّ قدمه في الاختيار؛ جاء الدِّين ناطقاً على لسان الوحي الإلهيِّ المعصوم ليضع الإنسان على الطريق السليم، بما يرى ويتأمَّل من ثمرات هذا السلوك، وبما يختاره بملء إرادته، قال تعالى: (( إنَّا هديناهُ السبيلَ إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً)) [سورة الإنسان-3].
وهكذا فإنَّ الخطاب القرآني يُحدِّثنا عن آثار السلوك الاجتماعيُّ المنطبق على معايير الخير والفضيلة التي تنسجم مع معايير الحقِّ والعدل في الكون، والتي يقوم على أساسها مجتمع الحقِّ والعدل الذي ينشده الإنسان ويجد فيه راحته وسعادته، وتستقيم فيه حياته، فيكون الإنسان به خليفةَ الله حقَّاً في أرضه فيمكِّنه فيها.
الابتلاء والتمحيص سنَّةٌ بين يدي النصر والتمكين
((وعدَ اللهُ الذينَ آمنوا منكم وعملوا الصَّالحاتِ ليستخلِفنَّهم في الأرضِ كما استخلفَ الذينَ من قبلهم وليُمكِّنَنَّ لهمْ دينهُمُ الذي ارتضى لهم وليُبدِّلنهم من بعدِ خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومنْ كفرَ فأولئكَ همُ الفاسقونَ)) [سورة النور-55].
غير أنَّ هذا الاستخلاف تسبقه سنَّةٌ الابتلاء والاختبار، وهي سنَّةٌ تستخرج من الإنسان طاقاته المخبوءة التي تقوده إلى أن يستحقَّ الاستخلاف في الأرض، وهي نشر الخيرية، وصناعة السعادة، وتكميل المعاني الإيجابية للعبودية، وفعل الخير للنَّاس جميعاً، قال تعالى: ((يا أيُّها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربَّكمْ وافعلوا الخيرَ لعلَّكم تُفلحون)) [سورة الحج-77]، ولنقل هي مرحله إعدادٍ وتهيئةٍ لحمل الأمانة: ((إنَّا عرضنا الأمانة على السماواتِ والأرضِ والجبالِ فأبينَ أنْ يحملنَها واشفقنَ منها وحملها الإنسانُ إنَّهُ كانَ ظلوماً جهولاً)) [سورة الأحزاب-72].
وقد ابتلى الله قبل ذلك الأنبياء فابتلى إبراهيم عليه السلام البلاءَ المبين في جهاده ضدَّ الشرك والوثنية، وعبادة الإنسان لنفسه وهواه وشهواته، وعبادة الإنسان للإنسان، قال تعالى: ((وإذِ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ فأتمَّهنَّ قالَ إني جاعلكَ للنَّاس إماماً قالَ ومن ذريَّتي قالَ لا ينالُ عهدي الظالمينَ)) [سورة البقرة-124]، وابتلى يوسف عليه السلام بالغربة، وفتنة المعصية، والسجن ظلماً، ويعقوب عليه السلام بفراق الأحبَّة، وأيوب بالمرض الشديد، ويونس في بطن الحوت، وموسى… وعيسى… والنبيين عليهم السلام، ومحمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان الابتلاء في كلِّ ذلك مرحلةً لابدَّ منها تسبق التمكين في الأرض.
يوضح البيان القرآني هذه المرحلة في قوله تعالى: ((أمْ حسبتم أنْ تدخلوا الجنَّة ولما يأتكم مثلُ الذينَ خَلَوا من قبلكم مسَّتهمُ البأساءُ والضراءُ وزُلزِلوا)) [سورة البقرة-214].
ومن السُّنن وقوانين التمكين أن يصيب الاختبار والابتلاء أمَّةً من الأمم قبل استخلافها في الأرض وتمكينها، وقد يكون هذا الاختبار والابتلاء على مراحل تطول أفرادها أوَّلاً حتَّى إذا اجتازوا الاختبار المبدئي مُكِّن لهم، فدخلوا مرحلةً جديدةً من الاختبار، وهي مرحلةٌ تأهيليةٌ أخرى لتوسيع تمكينهم إن اجتازوا مراحل ذلك الابتلاء والاختبار بنجاح، وهذا ما جرى مع المسلمين في غزوه أُحُد: ((ولا تِهِنُوا ولا تحزنوا وأنتمُ الأعلون إن كنتمْ مؤمنينَ إنْ يمسسكم قرحٌ فقد مسَّ القومَ قرحٌ مثله وتلكَ الأيَّامُ نداولِها بينَ النَّاس وليعلمَ اللهُ الذين آمنوا ويتَّخذَ منكم شهداءَ واللهُ لا يحبُّ الظالمينَ وليُمحِّصَ اللهُ الذينَ آمنوا ويمحقَ الكافرينَ أمْ حسبتم أن تدخلوا الجنَّةَ ولمَّا يعلمِ اللهُ الذينَ جاهدوا منكم ويعلمَ الصابرين)) [سورة آل عمران 139-143]، فالمحن تكشف حقائق البشر وجوهرها، وتمحِّص المؤمنين تمهيداً لاستخلافهم وتمكينهم في الأرض.
بين الرَّخاء والشدَّة
إنَّ الرخاء أو الشدَّة كلاهما من سنن الله تعالى في الامتحان ثمَّ التمكين: ((ونبلوكم بالشَّرِّ والخير فتنةً وإلينا تُرجعونَ)) [سورة الأنبياء-35]، لكنَّهم إذا فشلوا في مرحله الابتلاء والاختبار التأهيلي استبدلهم الله بأمَّةٍ أخرى أرسخ في الايمان، وأصلب في الإرادة، وأقوى في العزيمة، أُمَّةٌ لا تهونُ أمام أعداء الله: ((فسوف يأتي الله بقومٍ يُحبُّهم ويحبُّونه أذلَّةٍ على المؤمنين أعزَّةٍ على الكافرينَ يُجاهدونَ في سبيلِ اللهِ ولا يخافونَ لومةَ لائمٍ)) [سورة المائدة-54].
((وإن تتولَّوا يستبدلْ قوماً غيركم ثمَّ لا يكونوا أمثالكم)) [سورة محمد-38]، فالاستخلاف والتمكين في الأرض لا يكون إلَّا للصادقين الذين أوفوا بالعهد والميثاق مع الله تعالى: ((وإذ تأذَّن ربُّكم لئنْ شكرتُم لأزيدنَّكم ولئنْ كفرتُم إنَّ عذابي لشديد)) [سورة إبراهيم-7].
الإمهال
فإذا ما طغت أُمَّةٌ، وضلَّتْ، وأجرمتْ، وتمادتْ في نقض العهد مع الله؛ أمهلها الله ثمَّ جاءها العذاب بعد مهلةٍ قد ترجع فيها إلى الطريق القويم، فإن أبت استُدرجت بما آتاها الله من رزقٍ وعطاءٍ وتمكين لتكون الحجَّة عليها واضحةً دامغة فيحقَّ عليها العذاب: ((سنستدرجُهم منْ حيثُ لا يعلمونَ وأُملي لهم إنَّ كيدي متينٌ)) [سورة الأعراف-183].
تُستدرج الأمَّة التي تُعرِض عن هدي الأنبياء والخير والعدل، وتستبيح الظلم وتتنكَّب عن الصراط السويِّ، وتتجرَّأ على الأوامر الإلهية، ويُسيطر عليها حبُّ الدنيا، وتتكبَّر في الأرض، وتظلم العباد، وتعيث فساداً، وتكفر بآيات الله وأنعُمه، وتقتل أنبياءه والصالحين من عباده، وتتَّخذ سبيل الغيِّ سبيلاً: ((ولقدِ استُهزِئ بِرُسُلٍ مِن قبلِكَ فأمليتُ للَّذينَ كفروا ثمَّ أخذْتُهم فكيفَ كانَ عقاب)) [سورة الرعد-32].
التغيير والتبديل:
لئن غيَّرت أُمَّةٌ وبدَّلت وخرجت عن فطرة الخير، والعدل، واستعلت بالباطل جرت عليها سنَّة التغيير، تغيير النعمة وزوالها، وحلول النقمة مكانها: ((وضربَ اللهُ مثلاً قريةً كانتْ آمنةً مُطمئنةً يأتيها رزقُها رغَداً من كلِّ مكانٍ فكفرت بأنعمِ اللهِ فأذاقَها اللهُ لباسَ الجوعِ والخوفِ بما كانوا يصنعونَ)) [سورة النحل-112].
No comment yet, add your voice below!