مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مستطيل-

رؤية النبي ﷺ لسيدنا جبريل

رؤية النبي ﷺ لسيدنا جبريل

لماذا قذف الله في قلبه عليه الصلاة والسلام الرعب منه؟ ولماذا احتار النَّبيُّ في فهم حقيقته؟ ألا تقتضي محبَّة الله لرسوله أن يلقي السكينة في قلبه، ويربط على فؤاده فلا يخاف ولا يرتعد؟ لماذا خشي على نفسه أن يكون هذا الذي ساوره طائفاً من الجنّ؟ ألم يستيقن من أوَّل الأمر أنَّه ملكٌ أمينٌ من عند الله تعالى؟

لماذا انفصل الوحي عنه بعد ذلك مدَّةً طويلة؟ ولماذا جزع النَّبيُّ  بسبب ذلك جزعاً عظيماً حتى كاد يتردَّى من شواهق الجبال حسب ما رواه الإمام البخاري؟ 

هذه أسئلةٌ طبيعيةٌ بالنسبة للشكل الذي ابتدأ به الوحي، ولدى التفكير في أجوبتها نجدها تنطوي على حكمة: ألا وهي أن يجد المفكِّر الحرُّ فيها الحقيقة الناصعة القائمة على المنهج العلميّ اليقينيّ، والواقية عن الوقوع في شرك محترفي الغزو الفكري، والتأثُّر  بأخيلتهم المتكلَّفة الباطلة. 

لقد فوجئ محمَّدٌ عليه الصلاة السلام وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له: اقرأ، حتَّى يتبيَّن أنَّ ظاهرة الوحي ليست أمراً ذاتياً داخلياً مردُّه إلى حديث النفس المجرَّد، وإنَّما هي استقبالٌ وتلقٍّ لحقيقةٍ خارجيةٍ لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات. وضمُّ الملَك إيَّاه ثمَّ إرساله ثلاث مرَّاتٍ قائلاً في كلِّ مرَّةٍ: اقرأ، يُعتبر تأكيداً لهذا التلقِّي الخارجيّ، ومبالغةً في نفي ما قد يُتصوَّر من أنَّ الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخلياً فقط.  

ولقد داخله الخوف والرعب ممَّا سمع ورأى، حتَّى إنَّه قطع خلوته في الغار، وأسرع عائداً الى البيت يرجف فؤاده، لكي يتَّضح لكلِّ مفكِّرٍ عاقلٍ أنَّ رسول الله لم يكن متشوِّقاً للرسالة التي سيدعى إلى حملها وبثِّها في العالم، وأنَّ ظاهرة الوحي هذه لم تأت منسجمةً أو متمِّمةً لشيءٍ ممَّا قد يتصوَّره أو يخطر في باله، وإنَّما طرأت طروءاً مثيراً على حياته، وفوجئ بها (بالرسالة) دون أيِّ توقُّعٍ سابق.

ولا شكَّ أنَّ هذا ليس شأن من يتدرَّج في التأمُّل والتفكير إلى أن تتكوَّن في نفسه -بطريقة الكشف التدرجي المستمر- عقيدةٌ يؤمن بالدعوة إليها…

ثمَّ إنَّ شيئاً من حالات الإلهام، أو حديث النفس، أو الإشراق الروحي، أو التأمُّلات العلوية، لا تستدعي الخوف والرعب واصفرار اللون. يدلُّ على ذلك القياس اليقينيّ القائم على استقراء الحالات وجميع الظروف المشابهة، وليس ثمَّة أيّ انسجامٍ بين التدرُّج في التفكير والتأمُّل من ناحية، ومفاجأة الخوف والرعب من ناحيةٍ أخرى، وإلَّا للزم من ذلك أن يعيش عامَّة المفكِّرين والمتأمِّلين نهباً لدفعاتٍ من الرعب والخوف المفاجئة المتلاحقة.

وأنت خبيرٌ أنَّ الخوف، والرعب، ورجفان الجسم، وتغيُّر اللون، كلُّ ذلك من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلى اصطناعها والتمثيل بها. حتَّى لو فرضنا إمكان صدور المخادعة والتمثيل منه عليه الصلاة والسـلام، وفرضنا المستحيل من انقلاب طباعه المعروفة قبل البعثة من الصدق والأمانة إلى عكس ذلك تماماً.

ويتجلَّى مزيدٌ من صور المفاجأة المخيفة لديه ، في توهُّمه بأنَّ هذا الذي رآه، وغطَّه، وكلَّمَهُ في الغار، قد يكون طائفاً من الجنّ، إذ قال لخديجة بعد أن أخبرها الخبر: (لقد خشيت على نفسي) أي من الجان، ولكنَّها طمأنته بأنَّه ليس ممَّن يطولهم أذى الشياطين والجانّ لما فيه من الأخلاق الفاضلة، والصفات الحميدة.

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *