حداثة ولكن ؟!
حداثة ولكن
قد لا تدلُّك العناوين دائماً على المضامين، فكيف بعالم العجائب والمتغيِّرات اليوم؟! لا زالت تخدعك فيه الأسماء والصور ببهرجها وزينتها، تُلبِسُ الهرَّة ثوب الأسد، والثعلب ثوب الحمل الوديع…
“التنوير”، “الحداثة“، “ما بعد الحداثة“…
عنوانٌ لطيفٌ، برَّاق، جذَّاب، يوحي بكلِّ ما يتَّصل بعالم اليوم من التطوُّر الرقمي والتكنولوجي، والسرعة، والتقنية ونبذ التخلُّف، والتطلُّع نحو المستقبل. لكنَّنا في الغوص نحو الحقيقة نستبين تعريفات الحداثة وأخواتها من دُعاتها، وصنَّاعها المعاصرين.
يقوم مبدأ الحداثة _الذي نشأ مع عصر النهضة الأوروبي_ في الأصل على الثورة على الماضي بكلِّ تفاصيله الفكرية، والدينية، والعقائدية، والمرجعية، ليُنصِّب العقل البشري إلهاً بعد ظنِّهم بموت الإله، وذلك على يد: نيتشه، وديكارت الذي اعتبر البشر مالكي الطبيعة، وغيرهم. فاعتبرت الحداثة الإنسان مهيمناً على كلِّ شيء، بما في ذلك القيم الأخلاقية والمثل؛ يضع قواعدها، ويصدرها، ويتحكَّم بها وفق هواه.
فالدِّين في نظرهم مثلاً قالبٌ جامدٌ يحتاج إلى تجديد أو ربما إلغاء، والتاريخ دروسٌ ومواعظ يمكن الاستغناء عنها… وهكذا… وهكذا وصولاً إلى الأُسرة مثلاً فلا داعي للأب والأم، ولا حاجة لهما لأنَّ التربية مجرَّد قواعد صارمة تقيِّدنا، نحن أبناء الحياة، وعلينا أن نتعلَّم بأنفسنا… وتبلورت في ظلِّ الحداثة أفكارٌ جديدة لم تكن من قبل كالفكر النسوي، ودُعِم الشذوذ.
فإذا نبذت الحداثة الماضي، فإنَّما نحن جزءٌ من الماضي، معجونون به، وإنَّك في اللحظة التي تسبق قراءتك لهذا المقال كنت في الماضي، تلافيف دماغك، وتفاصيل ذاكرتك الممتدَّة ممَّا قبل لحظاتٍ إلى طفولتك… وولادتك… وكونك قبل ذلك في أصلاب آبائك وأجدادك، إلى أبينا آدم، وعالم الذرِّ، بكلِّ ما في ذلك من تفاصيل نحن ماضٍ في الدرجة الأولى، والحاضر لا يتعدَّى اللحظة، والمستقبل فسيحٌ أمامنا، غائب عنَّا. وإنَّنا إذ نرفض الماضي نرفض على الحقيقة أنفسنا.
قدَّست الحداثة العقل، وجعلته مركز الكون، وقطعته عن خالقه، فطلع علينا في النصف الثاني من القرن العشرين عصر “ما بعد الحداثة” وأزاح العقل من المكان الذي رفعته إليه “الحداثة“، لا لتعترف بالإله الواحد الأحد مالك الملك، خالق الكون، ولكن لتهوي بالإنسان، فيقدِّس هواه وغريزته وشهوته: ((أرأيتَ من اتَّخذ إلههُ هواهُ أفأنتَ تكونُ عليهِ وكيلاً)) [الفرقان-43].
لا مكان للعقل هنا لأنَّه ربَّما يستيقظ ليرى الحقائق بعيونٍ جديدة، ولأجل ذلك عُمل هذه المرَّة على خنق العقل وتخديره أو ربَّما قتله، لتقود هذا العالمَ غريزةٌ عمياء تبحث عن البقاء والسيطرة والقيادة بأيَّة طريقة.
ولأجل ذلك ضُخِّم دور وسائل الإعلام بكلِّ أنواعها، لتقود الوعي الجماهيريَّ المنوَّم بالشهوات، وضُخَّ سيلٌ من الأفكار الغريبة، والشَّاذَّة، والمنحرفة، لتتوافر بسهولةٍ ولو بين يدي طفلٍ في السادسة، وسُخِّرت لبثِّها جميع الوسائل المتاحة بدءاً بالتلفاز، والشبكة المعلوماتية، وليس انتهاءً بالهواتف المحمولة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والفيديو.
ومع تكرارها وكثافتها مدَّةً من الزمن صارت جزءاً من التكوين الفكريِّ والنفسيِّ للناس، يرون بعيونها، ويتبنَّون مضمونها، وأصبحت مع الوقت خُبز الشعوب اليومي.
وفي ظلِّ هذا النظام العالميِّ الجديد الذي بات يحاول التحكُّم بهذا العالم بكلِّ تفاصيله _وهذا ما نراه اليوم حقيقةً في الواقع الملموس_ بدءاً من شكل قَصَّةِ شعرك، وملابسك التي ترتديها كلَّ يوم، وطريقة مشيك وكلامك، وحتَّى نوع طعامك، وصولاً إلى أفكارك وعقيدتك. وبدأت الثوابت الفكرية والعقائدية والدينية المتجذِّرة تمَّحي، ليحلَّ محلَّها اللاثوابت، اللادينية، اللامرجعية… الضياع.
مسكينٌ إنسان العصر في قلب عواصف الفكر والتشكيك، تارةً تأخذه موجة العقل، وتارةً تُطيح به موجة الحريَّة، تفلَّتت جذوره، وهو في مهبِّ الريح يركب كلَّ يومٍ موجةً، ويجرِّب كلَّ يومٍ فكرة، وينصاع لكلِّ لذَّة، وفي ظلِّ هذا الواقع الموبوء يبحث لجذوره التائهة عن أرضها الأولى، يبحث عن الراحة التي فقدها، والطمأنينة التي خسرها، والتي لن يجدها إلَّا إذا عرف غاية وجوده، وسبب وجوده، وحقيقة وجوده، فعرف ربَّه.
No comment yet, add your voice below!