الفسيفساء السوري

الرزق بمفهوميه السطحي والعميق

يتساءل بعضهم عن مصير الفسيفساء السوري الذي يتكوّن من عددٍ من الأديان والأعراق والانتماءات في ظلِّ هذا التحرير الذي يحمل الصِّبغة الإسلاميَّة.

ومن نافلة القول أنّنا لا نتحدَّث عمَّن أجرم وتجاوز وأساء وظلم، فذاك موضعه المحاكم والقضاء، وإنّما نتحدَّث عن الحياة العامَّة بين أطياف الشعب. 

ولنستهلّ المقال بهذه الحادثة:

صدر في العهد العثماني أمرٌ سُلطانيٌّ بإعدام كلِّ من يتخلّف عن الجندية، فجاءت امرأةٌ مسيحيةٌ مفجوعةٌ إلى الشيخ بدر الدِّين الحسني؛ فقد تخلَّف ولدها الوحيد وأمسكوه لتنفيذ حكم الإعدام فيه ، فأخذت تستصرخ الشيخ بدر الدِّين بعد أن أعيتها الحيلة، ونادت مستجيرةً به أمام دار الحديث، فخرج الشيخ وقال: يابا ما لها؟!

فأخبروه بقصَّتها، فنادى وكيله الشيخ يحيى المكتبي، وقال له: يابا هات عربيَّة، ثمَّ توجَّه إلى مقرِّ الحاكم، ودعا جمال باشا، فخرج إليه مسرعاً، ورحَّب به، وطلب منه أيَّ خدمة، فأخبره الشيخ بقضية ذلك الشاب، وأنَّه جاء ليشفع له، فأخرج له جمال باشا الفرمان من جيبه، وأراه توقيع ناظر الحربية أنور باشا، فقال له الشيخ: يابا اكتب إلى أنور، وقل له: الشيخ بدر الدِّين أتى يتشفّع في فلان.

فقال: على الرأس والعين، وأبرق فوراً إلى ناظر الحربية بالقضيّة، فجاء الجواب: بما أنَّك امتثلت أمر الشيخ بدر الدِّين، وأحسنت في استقباله، وتمهّلتَ في إعدام المذنبين، قد رفعناك إلى رتبة فريق، وإنّنا قد عفونا عن كلِّ من قُبِض عليه ذلك اليوم إكراماً للشيخ بدر الدِّين.

إنّ هذه الواقعة وحدها تحمل رسائل لا تكاد تنتهي. 

 ومن ثمّ فنحن لا نطرح رؤيةً جديدةً في العيش المشترك، بمعنى: لا نتكلّف أفكاراً لملاءمة هذه الأوضاع، وإنّما نعيد الرؤية الإسلاميّة التي ضاعت وتشتّتت بين الأفكار المتشعّبة والتحليلات السياسيّة، والآراء الشخصيّة.  

وإنَّ من يدرك مقاصد الدِّين وأصوله تتّسع نظرته حول هذه القضيّة؛ لأنّ رسالة الإسلام إنسانيّةٌ عامّة، أبعادها شاملة، وأمَّا الأفراد فكلٌّ ينظر من زاويةٍ معيَّنة، ضمن مؤثِّراتٍ داخليّةٍ وخارجيّة، ويخرجون بنظرةٍ قاصرة.

إنَّ من يعيش في ظلِّ المسلمين أيَّاً كان دينه فإنَّه ينال حُرّيَّته وحقوقه كاملةً غير منقوصة؛ لأنَّ الله تعالى هو ربُّ العالمين كافَّةً، وقد منح جميع خَلْقِه حقَّ العيش في هذه المعمورة، ولا علاقة لهذا الحقِّ بالدِّين ولا بالعِرق ولا بالانتماء، ولم يأتِ دينٌ سماويٌّ باحتكار بلدٍ أو إقصاء مخالف، بل الأمر على خلاف ذلك، فكان الخارجون عن الدِّين هم الذين يعتدون على أتباع الأنبياء، فيخرجونهم من أرضهم، قال تعالى عن قوم لوط عليه السلام: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56].

وأخرج مشركو مكّة سيّدنا محمَّداً صلى الله عليه وسلّم وأتباعه من بلدهم، قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40] وقال أيضاً: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8].

كما قام فرعون وأتباعه بالتفريق بين الناس وجَعَلَهم شِيَعاً وطوائف، واستضعفَهم، وسام المؤمنين العذاب، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [القصص:4].

وأمّا معاملة المسلمين لأتباع الأديان الأخرى فمبنيَّةٌ على الرحمة وحسن الجوار، وهذه حقيقةٌ ناصعةٌ لا خلاف فيها، وعندما هاجر النبيّ صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة عاملهم بالأخوّة الإنسانيّة، وقواعد العيش المشترك، فترك لهم دينهم وحياتهم ومزارعهم وأموالهم ورغد عيشهم، وحقّق المواطنة لأهل المدينة بكلِّ أطيافهم، وأسَّس مجتمعاً آمناً مطمئنّاً مستقرّاً، يسوده العدل والإنصاف واحترام الحقوق، بعيداً عن الخلاف والشقاق، فوادَع اليهود وكتب لهم ميثاقاً في ذلك، وممّا جاء في ميثاقه: (وإنّ ذمَّة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإنَّ المؤمنين بعضُهم موالي بعضٍ دون الناس، وإنّه من تَبِعَنا من يهود فإنّ له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم…) [سيرة ابن هشام، (2/ 106].

وعندما فتح المسلمون بيت المقدس وقَّع  عمر بن الخطاب رضي الله عنه معهم ومع أهل لُدّ معاهدة أمان:

ومما جاء في نصّ المعاهدة: (بسم اللَّه الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء [أي بيت المقدس] من الأمان:

– أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملَّتها.

– أنَّه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيِّزها، ولا من صليبهم، ولا من شيءٍ من أموالهم.

– ولا يُكرَهون على دينهم.

– ولا يُضارَّ أحدٌ منهم.

وشهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة) [تاريخ الرسل والملوك للطبري: (3/ 609)] وكتب مثله عهداً وأماناً لأهل مدينة لُدّ.

 إنَّ تحقيق العدل أمرٌ مقدَّسٌ في الإسلام، وقد سبق جميع الأنظمة والقوانين، وبلغ الذّروة في ذلك، حتّى أمر بالعدل مع الأعداء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].

فقد أمر بالعدل مع العدوّ ونهاهم عن الاعتداء، قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2].

فإذا كانت هذه المعاملة مع العدوّ، فكيف بمن يعيش في كنف المسلمين!

لذا نجد النَّبيَّ صلى الله عليه وسلّم توعَّد من يعتدي على أتباع الأديان الأخرى، وجعل من نفسه حجيجاً يوم القيامة في نصرته وإنصافه من المسلم الذي ظلمه؛ لأنّه صلى الله عليه وسلّمr جاء بالعدل والحقِّ المطلق، فقال صلى الله عليه وسلّم «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ منه، فأنا حجيجُه يوم القيامة»

[سنن أبي داود (3052)، الأموال لابن زنجويه (621)، معرفة السنن والآثار: (18575) ].

وممّا يتعلّق بهذا السياق أنَّ الوليد بن عبد الملك عندما بنى الجامع الأمويَّ بدمشق غطَّى سقفه بالرصاص، وجمع الرصاص من كلِّ مكان، ولكنَّه نفد وبقيت قطعةٌ من السقف غير مغطَّاة، وبحث أمير دمشق عن الرصاص لتتمَّة السقف، فلم يجد مبتغاه إلّا عند امرأةٍ يهوديّة، فأبت أن تبيعه إلَّا بوزنه ذهباً، فكتب إلى الوليد يخبره بذلك، فقال له الوليد: اشتره منها بوزنه ذهباً، فلمَّا أخبرها بأنّه وافق على ذلك، قالت: هو هديةٌ مني إلى المسجد، فقال لها: كيف ضننتِ به أوَّلاً إلَّا بوزنه ذهباً، ثمَّ سمحتِ به هديةً؟ قالت: أنا لا أريد الذهب ولكن أردتُ أن أختبر عدل الإسلام. [الجامع الأموي في دمشق للطنطاوي (ص: 45)].

فأيُّ المعاني أبلغ! خضوع خليفة المسلمين الذي يملك مشارق الأرض ومغاربها لشروط امرأةٍ كتابيّةٍ مُجحفة، ولديه القوّة والقدرة على تنفيذ ما يريده دون أن يردعه أحد.

أم تصرُّف المرأة اليهوديّة التي تستطيع أن تكسب آلاف الدنانير الذهبية فتركتها محبَّةً بهذا الدِّين الذي أنصفها؟

لقد تزاحمت المعاني في هذه القصَّة، أنأخذ منها درساً عن حقوق المرأة، أم عن حقوق الأقلّيّات، أم العدل والإنصاف، أم العيش المشترك، أم اندماج أتباع الديانات بالإسلام، وتقديم أنفس ما يملكون للتعبير عن حبّهم له!

وعندما غزا التتار بلاد المسلمين، وقع كثيرٌ من المسلمين والنصارى في أسرهم، ثمّ استعاد المسلمون قوّتهم، وانتصروا عليهم، ثمَّ دخل ملوك التتار في الإسلام، وتفاوض المسلمون والتتار على إطلاق الأسرى كُلّهُم، فوافق التتار على إطلاق أسرى المسلمين دون أهل الكتاب، فرفض المسلمون أن يُفَكَّ أسراهم دون أسرى أهل الكتاب، وقالوا: لا نقبل إلّا بتحرير جميع من معكم من أسرى اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمَّتنا؛ فإنّنا نفكّهم ولا ندع أسيراً لا من أهل الملّة ولا من أهل الذمّة [مجموع الفتاوى: (28/616)] فأطلقوهم جميعاً؛ مراعاة لحقّهم ووفاءً لهم.

وبالمقابل ظهرت بعض المواقف المشرِّفة من بعض المسيحيّين، ومن بينهم فارس الخوري بيك الذي أحبَّ الشعب وأحبُّوه، ونال الثِّقة من المسلمين حتَّى تولَّى منصب وزير الأوقاف! وعندما اعترضت بعض الشخصيّات على ذلك خرج نائب الكتلة الإسلاميّة في المجلس عبد الحميد طبَّاع، وقال: (إنَّنا نؤمِّن فارس بيك الخوري (المسيحي) على أوقافنا أكثر ممّا نؤمِّن أنفسنا).

وقد ألقى كلمةً عظيمةً من منبر المسجد الأمويّ تُكتب بماء الذهب، ينبغي لجميع أبناء الأديان والطوائف أن يشنّفوا بها آذانهم، فقد قال: (إذا كانت فرنسا تدَّعي أنَّها احتلَّت سورية لحمايتنا نحن المسيحيّين من المسلمين، فأنا كمسيحيٍّ أطلب الحماية من شعبي السوري، وكمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلّا الله) فحمله المصلُّون على الأكتاف.

 بهذه الوطنيّة والثقة بين أبناء المجتمع، ووحدة الكلمة، والصفّ الواحد، والعيش المشترك استطاعوا أن يهزموا الاحتلال الفرنسي، وأمّا مدُّ اليد للخارج، وفتح الثغرات للذين يتربّصون بالبلاد، ورفع الشعارات المستوردة فإنَّها تعود بالفوضى والوهن والهزيمة وإفلاس الجميع.

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *