التعايش منهج حياة
بقلم: أ.محمد زريع
التعايش منهج حياة
يسري النهرُ الجاري النقي عذباً في وديان الأرض ويسقي زرعها، فتراهُ يرويها عن اليمين تارةً وعن الشمال تارةً أخرى… والماءُ واحد، والنَّاسُ على أطرافِه ينهَلُون منه عَذْبَ الماء، كلٌّ يأخذ بِقَدرِ حاجَتِه… والماءُ واحد.
على مثلِ هذه الصورة كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو النبع الصافي وذروة الصفاء، يضع العلمَ بين يدَي الصحابة ومَن بعدَهم، وكان العلم يجري بالناس كما يجري النهر…
فينهَلُ هذا من جانبٍ والآخر من الضفة الأُخرى، كلاهما ينهل والعِلمُ واحد، ولكن ما يختلف هو طريقة النَّهل…
وهكذا غرف الأئمَّة الأربعة رضوان الله عليهم من كلام المولى سبحانه وتعالى (القرآن الكريم)، وحكمة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (الحديث النبوي)، حتَّى وضعوا قواعدَ تشريعيةً في الفقه وأصوله…
هم لم يضعوا شرعاً جديداً مختلفاً، لكنَّ كلّاً منهم فهم فهماً جديداً فوضع قاعدةً قد تختلف في فروعها عن قاعدةٍ وضعها الآخر…
الأئمَّة الأربعة –مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وابن حنبل– كلُّهم متَّفقون على مرجعية الأحكام، فكيف يكون ذلك وبينهم نسبٌ في العلم!
فأبو حنيفة عاصرَ مالك، وشهد له مالك بالخيرية، والشافعي أخذ العلمَ عن مالك وعن تلميذ أبي حنيفة محمَّد بن الحسن الشيباني، وأحمد بن حنبل أخذ العلم عن الشافعي ولازمَه…
رحمته في الجهاد
وقد كمَّلَ علمُ بعضهم بعضاً، فاشتغل الإمام مالك بالحديث، واشتغل الإمام أبو حنيفة بعلم الفقه، والإمام الشافعي في الأدب والأصول، والإمام أحمد في الحديث ودراسته.
اتَّسم ذلك العصر بالتعايش وروح الحوار بين العلماء. صحيحٌ أنَّ الأئمَّة اختلفوا في بعض الفروع، لكن لم نجد بينهم خِلافاً، بل كان اختلافاً بأرقى معاني التفاهم والتعايش.
وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله: سُئل مالك بن أنس: هل رأيت أبا حنيفة وناظرته؟ فقال: “نعم، رأيت رجلا لو نظر إلى هذه السارية وهي من حجارةٍ فقال إنَّها من ذهب لقام بحجَّته“ [سير أعلام النبلاء].
ومن ذلك حفظ الودَّ والفضل بينهم، ومن ذلك ما رُوي عن الإمام أحمد بن حنبل قوله: “ما أحدٌ أمسكَ في يده محبرةً وقلماً إلَّا وللشَّافعي في عنقه مِنَّة” [سير أعلام النبلاء].
ويُروى عن الإمام الشافعيّ أنَّه كان يزور قبر الإمام أبي حنيفة ويصلِّي ركعتين ويسأل الله الفتوح في العلم، وممَّا روي عنه قوله: “الناسُ في الفقه عِيالٌ على أبي حنيفة” [منازل الأئمة الأربعة].
نعم… لا نُنْكر أنَّ الزمان مرَّ على عصورٍ سادَ فيها التعصُّب بين بعض الطلاب انتصاراً لمذهبهم، لكنَّ هذا الزمن ليس دليلاً على أنَّ المذاهب تؤدِّي إلى التعصُّب، إنَّما هي مرحلةٌ من مراحل التاريخ حصل فيها ذلك خطأً وقوَّمَ العلماء ذلك.
فعصر الأئمَّة الأربعة كان من العصور التي يفخر المسلمون بها وبعلمائها، وبتلك النهضة العلمية التي كان أساسها التعايش الحقيقي، حيث كانوا قدوةً في الحياة، وقدوةً في العلم.
No comment yet, add your voice below!