إن لربِّكم في أيَّام دهرِكم نَفَحات

إن لربِّكم في أيَّام دهرِكم نَفَحات 

شهر رمضان… ليلة القدر… ليلة النصف من شعبان… عشر ذي الحجَّة… يوم عرفة… يوم الجمعة… ثلث الليل الأخير… إلخ

أيامٌ ومواقيت، جعل الله لها مزيةً على غيرها، عرّفها وحدَّدها لنا، اللهمَّ إلَّا ليلة القدر، لنجِدَّ في الطلب.

فأخبرنا الشرع أنَّها أوقاتٌ مباركة، وحثَّنا على استثمارها في الأعمال الصالحات، وأن نبتغي فيها القرب من الله بالتفنُّن في أنواع الطاعات من صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقةٍ، وتلاوة قرآنٍ، وطلب علم، وإخلاص نية… إلخ

ولكن هناك نقطتان يغفل عنهما الكثير:

أوّلاً: طاعات الفرض مقدَّمةٌ على طاعات النفل، وعلينا استغلال مواسم الطاعة والعبادة لمزيدٍ من الرضى والغفران، وإتقان طاعات الفرض وإتمامها هو الأَوْلى والأنفع، فمحاولة تأدية صلاة الفرض بخشوعٍ ما أمكن مقدَّمٌ على ركَعات نفلٍ يركعها الإنسان ليزيد حصيله الكمّي، فالحرص على “كيفية” العبادة يغذّي القلب والروح، أمَّا الحرص على الكمِّ فقط دون الكيف، فإنَّه غالباً مايكون لخدمة الهوى والنفس، وقد يكون نابعاً عن سوء فهمٍ للأمور.

قال السري السقطي خال الإمام الجنيد رحمهما الله تعالى: ”خصلتان يباعدان العبد من الله تعالى، أداء نافلةٍ بتضييع فريضة، وعملٌ بالجوارح من غير صدق قلب[مختصر صفة الصفوة]

ومن طاعات الفرض الشبه منسيّة، والتي تُشعر الإنسان بعبوديته وتذلُّلـه لله تعالى: التوبة والاستغفار والندم على ما فات، قال تعالى: ((وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم)) [آل عمران: 133]

ثانياً: مما هو معلومٌ بالضرورة، أنَّ الله يقبل الطاعة من العاصي أو المذنب إن هو أخلص في الطاعة ولم يصرَّ على الذنب، فالطاعة ليست حكراً على العابد القانت التائب الخاشع، ولكن ما يخيف حقاً هو أداء الطاعات والاستزادة منها مع الاستهانة بعقاب الله في بعض الذنوب، اعتماداً على أنَّ الله غفورٌ رحيم، أو استكباراً من المذنب بأن يرى أنَّ ذنبه ليس ذنباً أساساً.  

ومن أمثلة ذلك، وتوضيحاً للفكرة:

  • رجلٌ مصلٍّ ذاكر ينكبُّ على تلاوة القرآن، وتعداد الختم في رمضان مثلاً، وهو في المقابل ظالمٌ لإخوته، متعدٍّ على حقوقهم، ويرى فعله صواباً، أو ربَّما حقَّاً من حقوقه.
  • أبٌ مهملٌ لتربية ابنه تمام الإهمال، ولا يسأل عنه إلَّا في المناسبات، وترى السبحةَ لا تفارقُ يده.
  • أمٌّ تعكف على الصيام، وحلقات المساجد ودروس العلم، وهي مهملةٌ لبيتها وزوجها وأولادها بحجَّة: لا وقت لديَّ، أنا خادمةٌ لدين الله! وغير ذلك كثيرٌ في واقعنا.

قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه يوماً: “أتدرون من هو المفلس؟” قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ، فقال: “إنَّ المفلسَ مِن أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه. فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ [رواه مسلم]

المفاهيم المشوَّهة حول الدِّين والطّاعة والعبوديّة، أدّت إلى سلوكٍ مُشوّهٍ، وإلى انحراف ميزان الطاعة، فأصبح الحلال والحرام حسب ما تركَنُ إليه النفس، لا حسب ما شرع الشارع، ومشكلةٌ حقيقيةٌ أن نتبع ما تركن إليه دون أن نشعرَ حتَّى باقترافنا للذنب، قال تعالى:((قل هل ننبِّئكم بالأخسرين أعمالاً؟ الذين ضلَّ سعيُهم في الحياةِ الدُّنيا وهمْ يحسبونَ أنَّهم يُحسنونَ صُنعاً)) [الكهف:103-104]. هكذا كانوا يحسبون ولكن الواقع كان مخالفاً لحسبانهم. هذه الآية دقيقةٌ في تصويرها ومخيفة، نسأل اللهَ ألَّا نكون ممَّن تشملهم.  

قد يخطر في بالنا سؤال: مادام هذا العبد يسعى، ويقوم بالطاعات، وهو يحسب أنَّه يحسنُ صنعاً، لماذا تركه الله مغيَّباً هكذا ولم يهده إلى جادَة الصّواب؟

بيَّن الله عزَّ وجلَّ الطريق في كتابه وعلى لسان نبيه: “الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس.[أخرجه الشيخان] فهو لم يذرنا في جهل وتحيُّر.

ولكنَّ المسألة هنا ليست مسألة معرفة الحلال من الحرام فحسب، فلا جاهل في هذا العصر بهذه الأمور، المسألة هنا اعتياد الذنب:

  • إمَّا من خلال تفشِّيه في المجتمع فيصبح في اللاوعي أمراً اعتيادياً.
  • أو من خلال ارتكابه مراراً وتكراراً دون رقابةٍ ذاتية، فيصبح مستباحاً عند صاحبه.
  • وإمَّا من خلال الخلط بين مفهومي العيب والحرام، ويقصد بالعيب ما يعيبه الناس من حولي عليَّ بغضِّ النظر عن كونه حلالاً أو حراماً، فالناس قد تعيب حلالاً بل ربَّما واجباً، كرفضك أن تحضر حفل زفاف قريبك لأنَّ فيه اختلاطاً محرّماً مثلاً.

 فعند اختلاط العيب المجتمعي أو العرف المجتمعي بالشرع دون ضابط -علماً أنَّ العرف الصالح هو من مصادر التشريع الإسلامي الفرعية- فعند اختلاطهما يتربَّى الإنسان على أنَّ المجتمع اذا استحسن شيئاً ولو كان حراماً فلا بأس بفعله، وإذا استقبح أمراً بغضِّ النظر عن كونه حلالاً يجب الابتعاد عنه، ومثال ذلك: شابٌّ وفتاةُ أجنبيان عن بعضهما، تعارفا وقرَّرا أن تنشأ بينهما علاقةُ بغير إطارٍ شرعيٍّ ليتعرَّفا على بعضهما أكثر، ولكن لا مانع من هذه العلاقة في نظرهما ونظر المجتمع، لأنَّ أهليهما يعلمان بها وكلُّ شيءٍ تحت نظرهما!!..  ومتى كان الوالدان هما الحَكَم عن ربِّ العالمين في الأرض، وهو الذي قال:  ((وإن جاهداكَ على أن تشركَ بي ما ليسَ لكَ بهِ علمٌ فلا تُطِعهما)) [لقمان:15]   

والأمثلة كثيرةٌ على اعتياد الذنب بسبب الأسباب السابقة، أذكر منها ما هو شائعٌ في مجتمعنا:

  • إضاعة الأوقات في الساعات على أمورٍ تافهةٍ لا قيمة لها، وهو أمرٌ اعتادَه معظم شبابنا، وهو عند الشارع أمرٌ حرام ((إنَّما الحياةُ الدُّنيا لعبٌ ولهوٌ)) [محمد:36]. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ منَ النَّاسِ الصِّحَّةُ والفراغ)) [البخاري]

ومن السلف من قال: الوقت سيف.

  • اللقاءات العائلية التي يحصل فيها اختلاطٌ غير مضبوط بضوابط الشريعة، وهي كثيرةٌ في مجتمعنا مع الأسف، أمرٌ اعتياديٌّ عندنا بل ونراها نوعاً من صلة الرحم، وقد ننويها خالصةً لله! وهي لا ترضيه في الحقيقة، وقال صلَّى لله عليه وسلَّم: “الحموُ الموت[البخاري ومسلم]. وقال: “ماتركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجالِ من النساء[البخاري]، يعني حتى لو كنت قدِّيساً فأنت لست بمأمن من الفتن، وحتى لو كنتِ قديسةً فأنتِ معرَّضةٌ لها، نسأل الله الهداية وتمام الفهم.
  • حجاب فتيات ونساء المسلمين اختلَّ ميزانه تماماً، نعم مازال الاهتمام بغطاء الرأس في مجتمعنا قائماً، ولا يزال الحثُّ عليه موجوداً، ولكنَّ مفهوم “الحجاب” في الشرع أوسع بكثيرٍ من مفهوم “غطاء الرأس” المنتشر عندنا، وهلمّ جراً.

فالله وضّح، وعلّم، وفهّم: ((واتَّقوا الله ويعلِّمكمُ اللهُ واللهُ بكلِّ شيءٍ عليم)) [البقرة: 282]. وأصبح العلم الشرعيُّ منتشراً بشكلٍ لايعذر جاهله نهائياً، ولكنَّ القضية ليست قضية جهل، بل هي قضية تشوُّهٍ في الفكر، وكبر في النفس. ولعلَّ الله أرسل له من ينبِّهه، أو ربَّما ابتلاه بأمرٍ ليفطن إلى فهمه الخاطئ ويصحِّح سلوكه، فلماذا لم يفطن هو لإشارات الله؟ وهل يعقل أنَّ بلاءً أو محنة لم تنزل به؟! لماذا ركن إلى نفسه، ولم يلقِ بالاً لصوت قلبه حتَّى أسكته نهائياً.  

فحريٌّ بنا قبل أن ننكبَّ على الطاعات في مواسم الخير وغيرها أن نتفكَّر في سلوكنا، ونضعه في مقياس الشرع الصرف لا على مقياس النفس والهوى والعرف، فنصحِّح ماخرج عن الصراط القويم، وذلك بأن نسألَ أهل العلم الثقات عن ماهية الفعل وحكمه، ونخلص التوبة لله، ونحاول إتقان الفرائض ما أمكن، والمقصود بالفرائض ليست الصلوات فحسب، بل كلُّ فرضٍ يخصُّك، ومنه إتقانك لعملك دون غش، والصدق مع إخوانك المسلمين في القول والعمل، وتنقية القلب من الغلِّ والحسد وغيرهما من الأمراض. وإعادة الحقوق إلى أصحابها، والسعي إلى نيل مسامحتهم في الحقوق المادية والمعنوية، فحقوق الله مبنيةٌ على المسامحة، أمَّا حقوق العباد مبنيةٌ على المشاحة، وقال أحد السلف فأحسن:” نم مظلوماً، ولاتنم ظالماً “

ثمَّ نتفنَّن بأنواع الطاعات والقربات ما شئنا، قال تعالى في الحديث القُدسيّ:” ماتقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتَّى أحبَّه”  فرضى الله لا يُبلغ إلَّا من الطريق الذي شرع، وحُبُّ الله ومحبّته لا يُنالُا إلَّا بفعل ما أمر .  

Recommended Posts

1 Comment


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *